عندما يلتقي القانون والواقع: بناء العدالة الانتقالية بإفريقيا

Facebook Share
عندما يلتقي القانون والواقع: بناء العدالة الانتقالية بإفريقيا
 
 
(الجزيرة)

تطبيق العدالة الانتقالية من أهم التحديات التي واجهت وتواجه عددًا من الدول بالقارة الإفريقية، التي خرجت من مراحل تميزت بالصراعات والنزاعات المسلحة؛ حيث خلّفت آثارًا سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة مست المواطن الإفريقي. وفي حين يتطلب الانتقال الديمقراطي وإقرار السلم الاجتماعي والمصالحة تطبيق العدالة الانتقالية؛ يحتاج هذا المسار أيضًا إلى فهم واستيعاب الثقافات والأعراف والممارسات الاجتماعية المحلية للمجتمعات الإفريقية، وإدراجها ضمن مسار تطبيق العدالة الانتقالية، وهو ما يمنحه مزيدًا من المصداقية والقابلية للتطبيق. 

ويمثل كتاب "عندما يلتقي القانون والواقع: بناء العدالة الانتقالية بإفريقيا" جهدًا متميزًا لدراسة المرتكزات الأساسية لبناء العدالة الانتقالية في إفريقيا، والعلاقة بين هذا المفهوم ودعم مبدأ المصالحة والسلم الاجتماعي. وتتمثل المساهمة الجديدة لهذا الكتاب الذي يضم مجموعة من الأبحاث التي تتناول العدالة الانتقالية من كل جوانبها، في إعادة دراسة هذا المفهوم باعتباره منهجًا فعالاً لإحلال السلام في القارة الإفريقية؛ حيث تبقى العدالة الانتقالية إحدى أهم آليات الانتقال الديمقراطي الحديثة. كما تأتي أهمية الكتاب بالنظر لطبيعة الباحثين من أبناء القارة الإفريقية الذين شاركوا في إنجازه؛ حيث تناولوا هذه القضية من خلال زوايا متعددة.

ويعالج هذا الكتاب الذي أصدرته الشبكة الإفريقية لأبحاث العدالة الانتقالية، بشكل صريح العلاقة المضطربة بين مفاهيم السلام والمصالحة والعدالة من جهة. ويسعى لتعميق الفهم لتغيرات مفهوم العدالة الانتقالية من جهة أخرى، وذلك من خلال وجهة نظر إفريقية.

إن الهدف الأساسي لهذا الكتاب يتمثل في كيفية تطوير مفهوم العدالة الانتقالية بإفريقيا، وإظهار مدى أهمية متابعة مسار تطبيق العدالة الانتقالية في عدد من دول القارة، والآليات والتحديات التي تواجه هذا المسار في مرحلة ما بعد العنف الاجتماعي الذي شهدته إفريقيا. بالإضافة إلى محاولة إشراك من أسماهم "أصحاب المصالح" على اختلاف طبقاتهم السياسية والاقتصادية في تطوير السياسات والممارسات التي لها تأثير سياسي واجتماعي مباشر.

وتعكس أبحاث هذا الكتاب التعقيدات التي تعترض السياسات والممارسات المرتبطة بتطبيق العدالة الانتقالية، والتي تجيب على اهتمامات وتخوفات البلدان الإفريقية التي خرجت من مرحلة الصراع الاجتماعي والسياسي بإرث ثقيل من الممارسات البعيدة عن مقتضيات العدالة.

دروس الماضي وواقعية الحاضر وإمكانات المستقبل

يضم الكتاب أحد عشر بحثًا مرتبطًا بمفهوم العدالة الانتقالية. وتؤكد الدراسة الأولى لبراين كاغورو المحامي والناشط الحقوقي من زيمبابوي، أن هشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في إفريقيا مرتبطة بالفشل في معالجة مخلفات الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي لطبقات اجتماعية، بالإضافة إلى ثقافة العنف في المجتمعات الإفريقية. ويضيف: إنه رغم توقيع العديد من دول إفريقيا على اتفاقات وإعلانات دولية، إلا أن القارة قد عرفت 189 انقلابًا عسكريًا بين سنوات 1956 و2011. وهو ما هدم ما أسماه كاغورو "المؤسسات والذاكرة المؤسساتية". إن دخول القارة الإفريقية مرحلة العدالة الانتقالية يتطلب" الاستفادة من دروس الماضي وواقعية الحاضر وإمكانات المستقبل". وقد تناول كاغورو بالتحليل المفاتيح الأساسية للرؤية الإفريقية للعدالة في مرحلة ما بعد الاستعمار.

وفي هذا السياق ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن الأدوات القانونية وحدها لا تكفي لتطبيق العدالة الانتقالية؛ إذ لابد من استحضار الدور الذي يلعبه السياقان الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي الذي يتم فيه تطبيق العدالة الانتقالية. ويضيف كاغورو: إن "العدالة ليست بطبعها انتقالية"، ولا يوجد أنواع مختلفة من العدالة، كما أن نجاحها يكون أقرب في المجتمعات التي تضم عِرقًا واحدًا أو ثنائيًا، بخلاف المجتمعات التي تضم أعراقًا كثيرة.

وبالنسبة لكاغورور فإن القارة الإفريقية قد شهدت منذ عام 1994 استخدام وتجريب الكثير من آليات الانتقال الديمقراطي، ورغم ذلك استمرت في حروب وصراعات سياسية داخلية في دول مثل تشاد وإقليم دارفور وساحل العاج وأوغندا وغيرها. كما عرفت القارة عددًا من بعثات السلام العالمية. ولذلك يرى أنه عوضًا عن التركيز على سياقات ووصف المقاربات الموجودة لتطبيق العدالة الانتقالية، لابد من تحديد إلى أي مدى يمكن تطبيقها.

وينتقل الكاتب لتأكيد الدور الفاعل للدولة في عملية تحديد أهداف الانتقال الديمقراطي، مع الحاجة إلى انخراط المجتمع في هذا المسار. ولكون مفاهيم الانتقال الديمقراطي قد انتقل أغلبها إلى إفريقيا عن طريق الغرب فإن هنالك حاجة إلى فصل هذا المفهوم عن العناصر الليبرالية والخلفية الفكرية الغربية لضمان نجاحه في إفريقيا، فهذا المفهوم ذو حمولة وليس محايدًا أيديولوجيًا وسياسيًا.

وضمن هذا السياق يؤكد الكاتب على دور حقوق المرأة في هذا المسار الانتقالي بالنظر لحجم العنف الذي يمارَس ضد المرأة في إفريقيا بخلفيات ثقافية واجتماعية. بالإضافة للفوارق الشاسعة بين التعريف الدولي للعنف ضد المرأة وبين المعايير المعتمدة لهذا التعريف في إفريقيا. إن تبني حوار جاد حول استراتيجيات التنمية التي تركز على الجوانب والمناهج العملية لتجاوز "التخلف" يعتبر الهدف والوجهة المثالية ضمن مسار العدالة الانتقالية في إفريقيا.

دور القوانين التقليدية والعرفية والثقافة

يتناول ستيفن أوولا الباحث في قضايا العدالة الانتقالية في أوغندا موضوع الانتقال الديمقراطي من زاوية أخرى، وهي دور القوانين التقليدية والعرفية ومدى أهمية الأخذ بها في سياق رؤية متكاملة لتطبيق العدالة الاتنتقالية في إفريقيا؛ حيث إن تطبيق مضمون العدالة الانتقالية في إفريقيا يحتاج إلى أن يستوعب التقاليد والأعراف القانونية في دولها. إن آليات القوانين العرفية لا تزال تلعب دورًا أساسيًا في كثير من المناطق والأرياف. ويضرب مثلاً لذلك في أوغندا حيث تأخذ  المحاكم بنسبة مهمة من القوانين العرفية المحلية. ويحيل أوولا على نتائج مسح ميداني أُجري عام 2010 في أوغندا حول "الانتقال للسلام" أظهر أن 49% من المستجوبين ليست لديهم دراية بالنظام القانوني الرسمي، مقابل 29% ممن لديهم اطلاع محدود.

وتتلخص رؤية أوولا في أن إدماج القوانين التقليدية والعرفية ضمن عملية الانتقال الديمقراطي أمر ضروري؛ لأن النظام القانوني الرسمي غير قادر لوحده على تلبية كل حاجات المجتمعات الإفريقية في مجال العدالة؛ حيث يتمثل دور العدالة الانتقالية في دعم الإصلاح الإداري للمحاكم في النموذج الأوغندي الذي ركّز عليه هذا الجزء من الكتاب.

وفي السياق ذاته يؤكد لياندرو كوما كيش الباحث الأوغندي المتخصص في العلاقات الدولية ما ذكره سابقًا ستيفن أوولا من حيث وجود توجه دولي لإدماج منظومة القوانين التقليدية في عملية إدارة العدالة الانتقالية. وتناول الحالة الأوغندية بالتحليل، لينتقد عملية إدارة العدالة الانتقالية في هذا البلد، والتي جاءت بمبادرة من الحكومات المتواجدة بالسلطة، ولم تكن العملية مصاحبة لأي إصلاحات في منظومة الحكامة. كما ألقى الضوء على أهمية الدور الذي تلعبه التقاليد والممارسات العرفية في المناطق التي تشهد نزاعات وصراعات؛ حيث سيكون لهذه الأعراف القانونية دور مستقبلي في عملية الانتقال الديمقراطي خصوصًا في مسار المصالحة بين المكونات الاجتماعية التي عاشت فترات طويلة من النزاع المسلح فيما بينها أو مع السلطة، وتسعى للتعايش أو لتطبيع العلاقات بين ما أسماه "الضحية والجلاد" في المراحل التي تعقب النزاعات.

إن مبدأ المصارحة والحوار والمسؤولية يعتبر أساسيًا لنجاح المصالحة بين الأطراف المتنازعة، أثناء تطبيق العدالة الانتقالية، بالإضافة لعامل مهم آخر وهو "التعويض المادي" للمتضررين من مراحل النزاع بكل أنواعه، كأداة لإصلاح الخلل الاجتماعي الذي أحدثه الصراع.

أما دافيد كوليمو الباحث الزيمبابوي في العلوم الاجتماعية والفلسفة، فقد تناول دور الثقافة المحلية والتقاليد والعادات المجتمعية بما تحمله من قيم اجتماعية في تطبيق العدالة الانتقالية، وضرورة دعم القيم الاجتماعية التي تساعد على إقرار السلم. حيث تجيب هذه العناصر التي ينبغي إعادة إنتاجها وصياغتها على كثير من الإشكالات التي يطرحها مسار الانتقال الديمقراطي. وفي هذا السياق يرى كوليمو ضرورة إعادة بناء وصياغة الثقافة والعادات الإفريقية التي تحوي كثيرًا من الغموض والتناقضات الداخلية حتى تُفهم في سياق حداثي معاصر. إن القراءة التبسيطية لعملية العدالة الانتقالية تنطوي على كثير من الغلط، وغالبًا ما يُنظر لها على أنها انتقال من حال صراع إلى حال سلم وتعايش، وهذا ليس بالضرورة صحيحًا. لأن الانتقال عملية معقدة ذات أبعاد سياسية وثقافية واقتصادية وتعليمية. كما أن مفهوم العدالة الانتقالية يتعرض للتبسيط حين ينظر إليه من خلال معادلة "الضحية-الجلاد". ويدفع هذا الفهم التبسيطي الكثيرين للاعتقاد بأن عملية الانتقال تفترض أن يتحول الخصمان إلى جسم واحد حيث يتخلى كل طرف عن قناعاته السياسية. وفي هذا الصدد يستدل كوليمو بأهمية ما أسماه "مؤسسة الحكماء أو الشخصيات الكبيرة سنًا وخبرة" مثل نيلسون مانديلا، وتجاربها في تحقيق الانتقال الديمقراطي. ويبقى أحد أهم التحديات المطروحة في مسار العدالة الانتقالية في إفريقيا هو كيفية بناء نظام جيد للحكامة يتيح التعايش بين مختلف مكونات المجتمع.

وفي حين يرى الباحث ضرورة اعتبار الثقافة والتقاليد جزءًا من مسار الانتقال، يقع في إشكالية أخرى حين يعتبر أيضًا أن المجتمعات الإفريقية قد تضررت كثيرًا بسبب الأفق الضيق لكثير من التصورات المجتمعية.

آلية لجان تقصي الحقائق

يتناول دفيس مالومبي الباحث في لجنة حقوق الإنسان في كينيا العدالة الانتقالية من زاوية أخرى من خلال دراسة الحالة الكينية من منطلق  تجربة "سياسة لجان تقصي الحقائق"؛ حيث يؤكد أن لجان تقصي الحقائق صارت منذ 20 عامًا جزءًا من آليات العدالة الانتقالية في إفريقيا، لإصلاح الأعطاب الاجتماعية التي خلّفها الصراع. ويحيل على دراسات تشير إلى أنه بين عام 1974 إلى 2011 تم تأسيس 37 لجنة تقصي للحقائق على أقل تقدير، 14 منها في إفريقيا. وتعتبر هذه التجربة قديمة في كينيا؛ حيث عملت هذه اللجان على متابعة خروقات حقوق الإنسان والجرائم الاقتصادية، إلا أن فشلها راجع إلى عدم إيجاد آليات لمتابعة التوصيات التي صدرت عن العديد من لجان تقصي الحقائق من طرف الحكومات، بالإضافة إلى عامل الصراع بين حزب التحالف الوطني لأجل التغيير بقيادة الرئيس مواي كيباكي والحزب الليبرالي الديمقراطي بقيادة رايلا أودينغا. ويرى أن مسار المحاسبة الذي نتج عن لجان تقصي الحقائق قد أظهر عدم اقتناع جزء كبير من النخبة الكينية بنتائجه بسبب تورط الكثيرين في خروقات سابقة.

ويبقى التحدي الكبير الذي يواجه هذه اللجان هو قدرتها على الاشتغال بعيدًا عن ضغوط السياسيين وتدخلاتهم، بالإضافة إلى حاجتها لامتلاك بعض الصلاحيات لتطبيق التوصيات. وبالنسبة لمالومبي فإن لجان تقصي الحقائق هي جزء مهم من آليات العدالة الانتقالية. وفي غياب مسار انتقالي متكامل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا لن يكون لآلية "لجان تقصي الحقائق" دور كبير في تحقيق العدالة الانتقالية. بالإضافة إلى أهمية الحفاظ على توازن معادلة "الاستقرار الاجتماعي وتطبيق المحاسبة".

حقوق الإنسان ضمن مسار العدالة الانتقالية

تناولت كريستين ألاي الباحثة والناشطة الحقوقية في كينيا دور حقوق الإنسان في مسار تطبيق العدالة الانتقالية، وهو ما يتطلب اعترافًا كاملاً بالانتهاكات الحقوقية أولاً، بالإضافة إلى منع تكرارها مرة أخرى في مرحلة ما بعد المسار الانتقالي. وتضيف ألاي: إن العدالة الانتقالية هي نفسها صارت مطلبًا حاليًا، وليس فقط بعض عناصرها. ويرتكز الارتباط بين مفهوم حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية على أربعة عناصر: أولاً: اتخاذ خطوات لمنع حدوث خروقات حقوقية، وثانيًا: إجراء تحقيقات جدية عند حدوث الخروقات، وثالثًا: تطبيق عقوبات زجرية مناسبة للخروقات، ورابعًا: ضمان تعويض المتضررين بشكل مناسب. ويحتاج تطبيق هذه المعايير إلى وجود مستوى من الديمقراطية والحكامة والشفافية في السلطة.

وفي حين تؤكد ألاي على ضرورة معالجة مسألة المتضررين من الانتهاكات الحقوقية بدون تعريض مسار التحول السياسي نفسه للخطر. تطرح سؤالاً مهمًا، وهو كيفية إصلاح الأعطاب الحقوقية، مع استمرار تواجد الكثير من المسؤولين السياسيين عنها في السلطة؟ لتصل في النهاية إلى أنه يجب على كل بلد إفريقي أن يطبق العدالة الانتقالية طبقًا لخصوصياته المحلية، بغض النظر عما تقتضيه المعايير الدولية. كما أن معالجة الأضرار الحقوقية لا ينبغي أن تتم دون إعادة النظر في النظام والآليات التي أنتجت ذلك.

وفي سياق مرتبط بدور حقوق الإنسان تناولت لوسي هوفيل الباحثة ضمن المبادرة الدولية لحقوق اللاجئين ظاهرة التهجير القسري وعلاقتها بالعدالة الانتقالية، باعتبار التهجير خرقًا لحقوق الإنسان؛ حيث تركّز بحثها حول منطقة البحيرات العظمى التي عرفت موجات من التهجير القسري. وتبدو هذه المقاربة ذات أهمية بالنظر للتركيز الدائم على انتهاكات حقوق الإنسان أثناء معالجة موضوع العدالة الانتقالية. وقلما يتم التطرق لظاهرة التهجير القسري، وهي قضية قد تكون سببًا لاندلاع صراعات مستقبلية في إفريقيا؛ حيث إن المهجرين قسريًا لا يشاركون غالبًا في الحوار أو المفاوضات المتعلقة بآليات العدالة الانتقالية والترتيبات اللاحقة لبناء الاستقرار، وهو ما يضعف هذه الآلية.

ومع أن هنالك اعترافًا على مستوى التنظير بضرورة إشراك اللاجئين خارج حدودهم في الحوار حول العدالة الانتقالية، إلا أنه عمليًا لم يتحقق منه الكثير. وتعود لوسي للإشارة إلى تحقق بعض الإنجازات في منطقة البحيرات العظمى؛ حيث أكد المؤتمر الدولي حول منطقة البحيرات العظمى والذي يضم 11 ولاية في المنطقة أن معالجة ظاهرة التهجير أمر أساسي لتحقيق السلم والأمن والتنمية في المنطقة، بالإضافة إلى ميثاق الاتحاد الإفريقي حول حماية ودعم المهجرين داخليًا في إفريقيا. واعتبرت، أثناء معالجتها لحالة بوروندي التي تعيش انتقالاً صعبًا نحو الاستقرار، أن أحد أهم تحديات العدالة الانتقالية بعد الصراع، هو إعادة إصلاح المؤسسة العسكرية والجيش.

إن آليات العدالة الانتقالية قد تكون مضرة إذا لم تستخدم بشكل جيد، وتضرب لوسي مثالاً برواندا حيث تمنع العدالة رجوع عدد ممن اعتُبروا مسؤولين عن مجازر ارتُكبت وهم متواجدون بالمنفى. وقد اعتُبر كثير ممن كان في المنفى مسؤولاً عن جرائم ضد الإنسانية، وهو ما ينفيه كثير منهم. ولذلك تقترح لحل المشكلة أن تعالج قضية المهجرين ضمن سياق يتسم بالانفتاح السياسي والحكامة الجيدة.

دور استراتيجيات التنمية

تناول روبرت إيسوروكو الباحث الأوغندي في سياسات التنمية منطقة شمال أوغندا كحالة لمعالجة العلاقة بين التنمية والسلم من جهة، وبين التنمية والعدالة الانتقالية من جهة أخرى؛ حيث إن تطبيق استراتيجيات التنمية في شمال أوغندا يحتاج إلى فهم عميق لطبيعة الصراعات المسلحة التي عرفتها تلك المنطقة. وبعد تحليل الخلفيات التاريخية للصراع المسلح الذي دمر شمال أوغندا، تناول آثارها الاقتصادية والاجتماعية على الأوغنديين. والتي عملت الحكومة الأوغندية في التسعينيات من القرن الماضي على إصلاحها. وذلك بعد الاتفاق عام 2006 بين الحكومة وجيش الرب للمقاومة على إنهاء الصراع، والاتفاق عام 2007 على إيجاد حلول شاملة للصراع، وتأسيس فترة انتقالية تمكن خلالها المهجرون بسبب الصراع من العودة لأرضهم، وإعادة تأسيس البنية التحتية في تلك المناطق.

إن أحد أهم التحديات تمثلت في تداعيات مرحلة التهجير على تكوين الأسر ووضعية الأطفال، مع بروز الجريمة المنظمة نتيجة غياب العدالة والقضاء الفعال؛ مما يضاعف من صعوبة تطبيق أولويات العدالة الانتقالية، وعلى رأسها تحقيق التوازن بين الشمال والجنوب في فرص التنمية ومعالجة الأضرار الاجتماعية التي سبّبها الصراع المسلح بين الحكومة وجيش الرب للمقاومة؛ وهو السبب الذي اندلع من أجله الصراع سابقًا. إن استمرار تأخر الحكومة في معالجة قضايا التنمية والعدالة وتحقيق السلم، يُبقي شمال أوغندا غير مؤهل للانتقال من وضعية الاستقرار النسبي إلى حال التنمية المستدامة.

بين اللغة والممارسات الاجتماعية

من الزوايا التي ضمها الكتاب لمعالجة قضية العدالة الانتقالية البعد اللغوي الذي تناوله بيوس أوجارا الأكاديمي والباحث الأوغندي، ودور اللغة في هذا الباب؛ حيث تحتاج التجربة الإنسانية أثناء تدوينها للغة تضعها في سياق صحيح، وتصف الوقائع كما حدثت حقيقة. وتتضح العلاقة بين اللغة والعدالة الانتقالية حسب الباحث في كون آليات السؤال والاستجواب للمتضررين من مراحل الصراع والتهجير القسري، إنما تتم بمنهجية لغوية دقيقة لشرح أوضاعهم التي تحتاج إصلاحًا ومعالجة. وهنا ينبغي تسجيل ملاحظة مهمة في تناول هذا المبحث حيث يظهر تكلف واضح في الربط بين اللغة ومفهوم العدالة الانتقالية.

ولحاجة العدالة الانتقالية إلى مؤسسات لتطبيقها فقد ركزت أوندي نواندي الباحثة في تحولات الصراع في جنوب إفريقيا على آليات الرصد والتقييم داخل المؤسسات التي تعمل على تطبيق العدالة الانتقالية. وهي آليات مهمة في تطوير عمل المؤسسات والأفراد؛ حيث إن كثيرًا من ممارسات مؤسسات العدالة الانتقالية تتم بطرق غير واضحة، وبعيدًا عن رقابة المجتمع، في حين بالإمكان أن تكون أكثر شفافية أثناء توثيق خبرات المتضررين في مراحل الصراع، أو أثناء تقديم الاستشارات لصنّاع القرار. ويوجد الكثير من الخبرات والتجارب التي لا يمكن أن تُحكَى إلا بعد فترة طويلة حتى لا يتضرر بسببها مسار العدالة الانتقالية. وترى واندي أن مسار العدالة الانتقالية ينبغي أن يتراوح بين استراتيجيتي "الإعلان والإخفاء". وتبقى إحدى أهم الآليات في العدالة الانتقالية "المشاهدة والكتابة".

إن إحدى الركائز الأساسية لتطبيق العدالة الانتقالية تتجلى في توظيف المفاهيم والممارسات الاجتماعية بإفريقيا. وقد ركز تيم موريتي، مدير برنامج العدالة الانتقالية في إفريقيا في معهد العدالة والمصالحة في جنوب إفريقيا، على هذا البعد لتحقيق السلم والاستقرار في القارة الإفريقية؛ حيث إن عددًا من التصورات والمفاهيم حول الفرد والإنسان ودوره في المجتمع يساعد في بناء علاقات سياسية واقتصادية مستقرة. ويضرب لذلك مثالاً بما يسمى في الثقافة الإفريقية التقليدية "أوبونتو"، وهو مفهوم يختزل كثيرًا من القيم الإنسانية مثل العفو، وهو مفهوم ثقافي قادر على بناء السلم وفض النزاعات، وهو مطلب أساسي للعدالة الانتقالية، بالإضافة لما يتيحه في الثقافة المحلية الإفريقية من إمكانية طلب المعتدي العفو من الضحية، وبالمقابل منح الضحية العفو للمعتدي.

ويضرب موريتي مثالاً آخر لآلية اجتماعية مهمة في شمال أوغندا وتخص أسلوب مجموعة "أشولي العرقية" في المصالحة وفض النزاع وتسمى "ماتو أوبوت"، وهي شبه مؤسسة للحفاظ على العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون؛ حيث يعتبر خطأ الفرد خطأ للمجموعة القبلية بأكملها، ويربط بين الفرد والقبيلة في الممارسة والمحاسبة. وتعتبر هذه الممارسات المحلية نماذج لبناء وتطوير آليات تطبيق العدالة الانتقالية في القارة لما تتمتع به من قبول اجتماعي. ويخلص إلى أن النماذج المحلية القديمة والنماذج المعاصرة تعملان بشكل متواز، ولا يمكن فقط الاكتفاء بالمعايير الغربية في تطبيق العدالة الانتقالية؛ حيث تحتاج المعايير الغربية لاستيعاب الممارسات الاجتماعية المحلية.

معلومات الكتاب
العنوان: عندما يلتقي القانون والواقع: بناء العدالة الانتقالية بإفريقيا
المؤلف: مجموعة باحثين
عرض: كمال القصير-باحث في مركز الجزيرة للدراسات
الناشر: بامبازوكا بريس
تاريخ النشر: 2012
عدد الصفحات: 228
________________________________
* كمال القصير – باحث في مركز الجزيرة للدراسات

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

Comments

No Results Found


Your Comment

* Your Comment
* Captcha