استخدام علم الآثار الشرعي في التحري عن جرائم الإبادة الجماعية

Facebook Share

استخدام علم الآثار الشرعي في التحري عن جرائم الإبادة الجماعية

 

 

 

ترجمة د. ياسر نديم سعيد

 

 الملخص
يُعتبر فرع علم الآثار الشرعي من فروع المعرفة التي تشكّل مركباً أساسياً في عملية التحري عن جرائم الإبادة الجماعية. يتدرب عالم الآثار الشرعي كي يتعرف على القبور ويحفرها ويعيّن هوية البقايا البشرية. عالم الآثار الشرعي قادر أيضاً على المساعدة في المختبر حيث يتم فحص بقايا الهيكل العظمي والأشياء المرفقة معه. تم  استخدام علماء الآثار الشرعيين في العديد من عمليات التحري عن جرائم الإبادة الجماعية مثل التي جرت في راواندا والأرجنتين والبوسنة. عالم الآثار الشرعي قادر مع اختصاصيين آخرين على توثيق جرائم الإبادة الجماعية وإحصاء عدد الوفيات، وهو قادر على مساعدة المحاكم الوطنية والمحاكم الدولية وعائلات الضحايا من أجل فهم ما حدث بالضبط للضحايا. تنظر هذه المقالة في خلفية فرع علم الآثار الشرعي، وتتحرى عن كيفية استخدام علم الآثار من أجل التحري عن جرائم الإبادة الجماعية في راواندا عام 1994.

 

المقدمة
تميّز القرن العشرون بوقوع العديد من جرائم الإبادة الجماعية مثل تلك التي حدثت في راواندا والبوسنة وكوسوفو وكامبوديا. أصبح الادعاء على المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية أسهل مع إقرار الأمم المتحدة للاتفاقية حول جرائم الإبادة الجماعية في 9 كانون الأول عام 1948، بالإضافة إلى معاهدات حقوق الإنسان الأخرى.

عرّفت تلك الاتفاقية جريمة الإبادة الجماعية بأنها كل عمل ارتكب وأدى إلى إبادة جماعة وطنية أو إثنية أو دينية أو عرقية من البشر، ويشمل ذلك قتل أفراد الجماعة، أو التسبب بالأذى البدني أو النفسي لهم، أو خلق ظروف يمكن أن تؤذي الجماعة بشكل متعمد، أو تهجير أطفال جماعة بالقوة إلى جماعة أخرى.

تتم محاكمة أي شخص متهم بجريمة إبادة جماعية في محكمة وطنية أو دولية، ولكي يحدث ذلك يجب التحري عن حدوث جريمة الإبادة الجماعية بحيث يمكن كشف أدلة كافية. توجد غالبية الأدلة المادية على حدوث جريمة الإبادة الجماعية في قبور الضحايا. تكون الجثث مدفونة بشكل نموذجي لبعض الوقت بحيث تصبح بقاياها هياكل عظمية، ولهذا السبب يجب أن يكون أعضاء فريق التحقيق على معرفة بطرق الدفن وهذا الأمر يعرفه عالم الآثار الشرعي. إن دراسات علم الآثار الشرعي مهمة من أجل نشوء وتطور هذا الفرع من فروع المعرفة بشكل أكبر، ولكي تصبح نتائجه أكثر جودة. يكون الدليل المقدّم أمام العدالة عندما يتم إحضار مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية للمحكمة ذا أهمية فائقة لأنه يُظهر العنف الذي حدث. ذلك الدليل مهم أيضاً للتعرف على الضحايا بحيث يمكن لعائلات الضحايا معرفة ما حدث. المسألة التي يتناولها هذا المقال هي كيفية استخدام علم الآثار الشرعي أول مرة، وكيف تم ذلك في جرائم الإبادة الجماعية التي حدثت في راواندا عام 1994.

 

الخلفية (ظروف العمل)
تم استخدام علماء الآثار الشرعيين وعلماء الإنسانيات الشرعيين (forensic anthropologists) أول مرة في التحري عن انتهاكات حقوق الإنسان عام 1984. أرسلت الجمعية الأميركية لتطور العلوم (AAAS) وفداً دولياً من علماء شرعيين إلى الأرجنتين للمساعدة في نبش القبور والتعرف على آلاف البشر الذين "اختفوا" أيام حكم المجلس العسكري. تم خطف آلاف البشر بواسطة القوات العسكرية بين عامي 1976-1983 ووضعوا في معسكرات اعتقال عسكرية، حيث تم تعذيبهم فيها وقتلهم بشكل معتاد. تم التخلص من جثث الضحايا بشكل سري غالباً بحيث تركت عائلاتهم دون أي فكرة عن مكانهم. شكلت أمهات وجدات بعض المختفين جماعة مدنية ناشطة (جمعية جدات قصر مايو) دفعت بحماس وبطريقة هجومية من أجل العثور على مفقوديهن. بعد تشكيل حكومة جديدة عام 1983 تم وضع أولوية للعثور على المختفين. تم حفر القبور المفترضة بدون مساعدة من علماء شرعيين أو علماء آثار، وقد حدث حينها تخريب للقبور ولم يتم تأمين الأدلة. ولم يتوفر، بشكل نموذجي، أحد للتعرف على الأموات وتقديم الدليل للمحكمة. ومن أجل ذلك كله تم طلب مساعدة خارجية وولد حينها فريق عمل الأنثروبولوجيا الشرعية في الأرجنتين.

شكّل فريق عمل الأنثروبولوجيا الشرعي في الأرجنتين (EAAF) إرثاً لهذا العمل. وحثّ نجاح EAAF، بتوجيه الدكتور كلايد سنو في التحري عن انتهاكات حقوق الإنسان، على تشكيل عدد من فرق علماء الآثار التي استخدمت عمل EAAF كنموذج لها. تم إرسال فرق تحرٍّ شرعية للعديد من المناطق في العالم التي شملت: الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وتشيكوسلوفاكيا والسلفادور وغواتيمالا وكينيا والعراق والمكسيك وباناما وكوريا الجنوبية والعديد من البلدان غيرها.

 

الإجراءات الميدانية
إن عالم الآثار الشرعي مفيد في العمل الميداني، فبإمكانه المساعدة في تحديد مكان القبر وفي حفره. إن انتباه عالم الآثار للتفاصيل يضمن عدم ضياع الأدلة الصغيرة. يوجد نوعان من أمكنة القبور التي تترافق مع جرائم الإبادة الجماعية: تحت السطح والسطحية. الأمكنة السطحية تمثلها العظام المبعثرة، وأمكن مشاهدة هذا النوع من مكان القبور في راواندا وكمبوديا نتيجة جرائم الإبادة الجماعية هناك. في العديد من الحالات تكون القبور المرتبطة بجرائم الإبادة الجماعية قبوراً جماعية. يعرّف القبر الجماعي بالقبر الذي يحتوي 6 أفراد على الأقل داخله. يتم إلقاء الجثث غالباً في القبر بشكل اعتباطي لذلك يجب اللجوء إلى تقنيات حفر قبور يقظة.

 

تحديد مكان القبر
الخطوة الأولى هي إيجاد القبر، وهذا يمكن فعله بعدة طرق. إحدى هذه الطرق إجراء مقابلات مع الناس لأنه قد يوجد شهود على عملية الدفن من مثل الذين نجحوا في الهرب، أو أن المجرم قد يعترف على مكان القبر. قد لا تزوّد هذه الطريقة بمكان واضح للقبر لأن الشاهد قد يكون غير قادر على تذكر مظاهر محددة بسبب الشدة التي رافقت اليوم الذي تم فيه الدفن. يمكن التأكد من ذاكرة الشاهد عن طريق أخذه إلى المكان المفترض للدفن. حالما تتشكل فكرة عامة عن القبور المحتملة يمكن استخدام المسابر. يبلغ طول أحد أنواع المسابر (Tile Probe) 1.5 متراً وله نهاية كليلة ورأس آخر بشكل حرف T، وهو المسبار المستخدم الأكثر فعالية. يتم غرز المسبار في الأرض يدوياً وتحسس أي تغير في كثافة التربة فهذا يدل على وجود مكان الدفن. وإذا كان البقايا المدفونة متفسخة فإن نهاية المسبار سوف تصدر رائحة التفسخ. الطريقة الأخرى للعثور على القبر تكون باستخدام حساسات هوائية تعمل عن بعد وهي أدوات مزودة بكاميرات حساسة للأشعة تحت الحمراء. يعتمد عمل هذه الأدوات على حقيقة إصدار الجثث الجماعية للحرارة مدة أيام عديدة، فخلال يوم أو يومين من الموت تبدأ الجثث بإصدار الحرارة قليلاً مع بدء التفسخ. يختلف عدد الأيام التي يمكن خلالها استخدام هذه الطريقة اعتماداً على القبر نفسه. توجد طريقة ثالثة لإيجاد القبر باستخدام أدوات يمكنها تحسس وجود غاز الميثان الذي تطلقه الجثث المدفونة. وهناك طرق أخرى مثل البحث في الأرض عن مكان مرتفع أو غائر أو عن تغير العنصر النباتي أو تغير التربة فكل ذلك يدل على مكان القبر. عندما يتم حفر القبر وإعادة ردمه يبقى انخفاض بسبب صعوبة ملء الحفرة كما كانت من قبل، ولأن الجثة عندما تتفسخ تأخذ حيزاً مكانياً أقل والتربة نفسها تنخسف. يتغير النبات فوق القبر أيضاً نتيجة عملية الحفر، فبعد بعثرة التربة تنمو الأعشاب كأول نبات من جديد ولذلك فإن المنطقة المغطاة بالعشب فقط تدل جيداً على مكان حفر حديث. عندما تتفسخ الجثة تتسرب عناصر منها في التربة المجاورة لذلك يمكن لدراسة عينات من التربة أن تدل على مكان القبر. يتسرب الكالسيوم والفوسفور والصوديوم والتوتياء  في التربة ولذلك يدل وجود تركيز أعلى من هذه العناصر على وجود القبر.

بعد تحديد مكان القبر يجب وضع علامات واضحة مثل استخدام نظام GPS. يحتاج الأمر لخطوات من أجل تقييم مكان القبر، فيجب تحديد حواف القبر بتنظيف محيط القبر. يجب حفر خندق شاهد بعيد عن القبر بمسافة كافية بحيث يمكن التعرف على التربة الطبيعية وتحديد طبقاتها في المحيط. بعد تحديد محيط القبر يجب سبر الأرض بمسبار فولاذي لتحري وجود جثث من عدمه وتحديد مكان تجمعها. يجب رسم خريطة لمكان القبر وتصويره فوتوجرافياً أيضاً. يجب أن تظهر الخريطة المباني والطرق والطبوغرافيا والمقياس والنبات.

يجب السيطرة على المكان أيضاً، فعلماء الآثار الشرعيين بحاجة لضمان أمن المكان ليلاً بحيث لا يتم تحدي "استمرارية سلامة الدليل" في المحكمة لاحقاً، وحتى لا يتم تلوث الأدلة والبقايا. هذا الأمر مهم بشكل خاص في المحكمة عندما يتم إحضار القتلة للعدالة. الأدلة الملوثة تعني أن القتلة قد ينجون من السجن بسبب دورهم في الجريمة.

 

حفر القبر
يمكن للحفر أن يبدأ حالما تنتهي عملية تحديد مكان القبر وتأمينه. يعتبر تحديد إمكانية أن يكون القبر أولياً أو ثانوياً من الخطوات الأولى. القبر الأولي هو القبر الذي توضع فيه البقايا أول ما توضع، أما القبر الثانوي فيعاد فيه دفن البقايا بعد نبشها من قبرها الأولي.

يجب تسجيل كل المشاهدات المميزة أثناء عملية الحفر، وهذا يشمل تدوين كل شيء وكل مظهر، وتصوير كل شيء ووضع ملاحظات عليه. لدى عالم الآثار خبرة في هذه الأمور حيث أنها من الأمور المهمة في كل حفريات الآثار وليس فقط في هذا النوع من الحفر. يجب تسجيل العديد من المظاهر أثناء التعامل مع مكان القبر وهذا يشمل موضع الجثة، ووصف عمق حفرة الدفن، ووصف مقتنيات القبر (مقتنيات الميت)، ووصف اتجاهات الجثة.

يجب أخذ عينات من المكان من التربة ومن البقايا البشرية. يجب عمل خطوات عديدة قبل إخراج الجثة من القبر. يجب التعامل أولاً مع توزع أطراف الجثة لأنها قد تكون قد التوت حين قذف الجثة في القبر يدوياً أو آلياً بالبلدوزر. يجب تخليص الجثة أيضاً قدر الإمكان من التراب ومن الجثث الأخرى، وقد يكون ذلك صعباً نتيجة تداخل الجثث ببعضها البعض. يجب تنظيف الجثة قبل تصويرها بحيث تظهر الملابس والأذيات المشتبهة. يجب ملء استمارة تسجيل بكل المعلومات المتعلقة بالجثة والأشياء المرافقة لها. بعد عمل كل ذلك يمكن إخراج الجثة من القبر.

 

الإجراءات المخبرية
يمكن فحص الجثة في المختبر حالما يتم إخراجها من القبر مع كل الأشياء المرتبطة بها، وهنا أيضاً يمكن الاستفادة من مهارات عالم الآثار الشرعي. يدمج عالم الآثار الشرعي معرفته بعلم العظام مع علم الآثار بحيث يكون قادراً على المساعدة في تحديد عمر وجنس وعرق المتوفى، وسبب وفاته، والمعلومات الأخرى عن بقايا الهيكل العظمي. يمكن أن تُظهر بقايا الهيكل العظمي الناجمة عن جرائم الإبادة الجماعية علامات التعذيب أيضاً لذلك فإن معرفة علامات التعذيب مسبقاً يساعد أيضاً في البحث عنها.

يمكن الحصول على أربعة أنواع من الأدلة المادية من البقايا البشرية، ويشمل ذلك: أدلة التعرف على هوية المتوفى، والأدلة التي تدل على زمن الوفاة، والأدلة التي تدل على المعاناة قبل الوفاة، والأدلة التي تدل على سبب الوفاة وشكلها الطبي الشرعي (قتل، انتحار، حادث عرضي، طبيعي، غير معروف) وطريقة الموت. كان من الصعب في العديد من الحالات في جرائم الإبادة الجماعية استخدام بعض الأدلة المادية مثل الأسنان من أجل التعرف على هوية الميت، والسبب في ذلك أنه في العديد من دول العالم الثالث حيث تحدث غالبية جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية لا يذهب العديد من الناس إلى طبيب الأسنان، ولذلك لا توجد سجلات أسنان طبية يمكن الاستفادة منها في التعرف على هوية الميت.

تم تعذيب الضحايا قبل قتلهم في بعض جرائم الإبادة الجماعية. يُعرّف التعذيب بأنه إحداث معاناة عقلية أو جسدية لمصلحة المجرم أو السلطة التي يعمل لها. من الصعب جداً  أو من المستحيل إظهار المعاناة العقلية أو طرق التعذيب الأخرى التي تترك أثراً قليلاً على الجثة في القبر. يمكن إظهار التعذيب في الأنسجة الرخوة للضحايا قبل حدوث التفسخ الشديد للجثة. قد يكون التعذيب خفيفاً أو شديداً بحيث يؤدي مباشرة إلى موت الضحية. يمكن إظهار آثار التعذيب في الأنسجة الصلبة حتى بعد حدوث التفسخ الشديد، مثل علامات الجروح والكسور، وقد توجد أشياء مترافقة مع الجثة توحي بقوة بحدوث التعذيب. بعد تحديد حدوث التعذيب يجب أن نحدد ما إذا كان التعذيب قد حدث قبل الموت بمدة معينة أو قريباً جداً من زمن الموت بحيث ترافقت الأذيات مع الموت. قد تحدث بعض الرضوض على الجثة بعد الموت أيضاً بواسطة الأدوات المستخدمة في الكشف عن القبر. يجب استقصاء فيما إذا كان الرض المشاهد على الأنسجة الصلبة قد حدث مرة واحدة أو تكرر فعله أيضاً. وقد لا توجد علامات واضحة للتعذيب على الأنسجة الصلبة للضحية، وعلى أية حال قد لا تظهر مع الشخص الذي توفي نتيجة أعمال التعذيب الأدلة على طرق التعذيب بسبب التخلص من أدوات التعذيب في الجثة وما حولها. وقد توجد الأدوات التي سببت موت الضحية في القبر مترافقة مع جثته. تشمل تلك الأدوات: عصابة تغطية العينين، رباط تقييد اليدين أو القدمين، الحبال، الأكياس، قضبان فولاذية، والأدوات الأخرى المستخدمة في تقييد وقتل الضحايا.

قد يوجد العديد من الأدلة النموذجية في مكان التعذيب أو مكان قتل الضحية. تشمل الأدلة النموذجية التي يمكن أن توجد في الأنسجة الرخوة للضحايا: ثقوب الطلق الناري، جروح طعنية، كدمات وجهية، آذان مقطوعة، علامات تقييد اليدين، أعضاء تناسلية مشوهة أو مبتورة، شقوق ناجمة عن النفخ، ندبات حروق، أظافر مقتلعة، وأذيات الحشرات.

تشمل الأدلة النموذجية التي يمكن أن توجد في الأنسجة الصلبة للضحايا: علامات استخدام المنشار، وعلامات حفر الأسنان غير الضرورية، والعظم اللامي المكسور (في العنق)، وتآكل العظم التقرحي، وعلامات البتور والتقطيع، وجرح إبهام اليد الدفاعي، والخلوع الناجمة عن التشويه.

 

دراسة حالة فريدة: راواندا
الخلفية (الظروف المحيطة)
تقع راواندا شرق-وسط أفريقيا، وهي موطن لجماعتين رئيسيتين:  الهوتو والتوتسي. تتشارك الجماعتان نفس اللغة ونفس الأرض ونفس الديانة لذلك من الصعب وصفهما كجماعتين إثنيتين متمايزتين.

أُطلقت النيران على طائرة رئيس راواندا (هابياليمانا) في 6 نيسان عام 1994 فسقطت الطائرة وقتل الرئيس. تركت جرائم الإبادة الجماعية التي تلت الحادث أكثر من 800 ألف قتيل وأكثر من 4 ملايين مهجر داخل راواندا وأكثر من 2.3 مليون مهجر خارج راواندا. ملايين أخرى من الناس أصبحت مشوهة أو ميتمة أو مرضوضة أو منتهكة أو بأطراف مبتورة. غالبية الموتى كانوا من التوتسي بالإضافة إلى أن أي شخص أظهر تعاطفاً مع التوتسي كان معرضاً لخطر الموت. الحكايات القادمة من راواندا أظهرت 100 يوم من الأعمال الوحشية الشريرة. كان الساطور السلاح المفضل، وقد ترك استخدامه ملايين المشوهين والمبتورين. شملت طرق القتل الأخرى المسدسات والبواريد والقنابل اليدوية والفؤوس والسكاكين والضرب حتى الموت ودفن الأحياء والإغراق. لجأ العديد من التوتسي إلى الكنائس وغيرها من الأماكن العامة، وقد حدثت في بعض الكنائس أسوأ المجازر. أُمر الهوتو بقتل جيرانهم التوتسي وإذا لم يفعلوا ذلك فسوف يُقتلون. قتلت النساء أفراد عائلاتها، وقتل طلاب المدارس بعضهم البعض، وقتل المعلمون طلابهم، وقتل الأطباء والممرضات مرضاهم.

تم تحديد مكان أحد مجازر الإبادة الجماعية في كنيسة كيبوي الرومانية الكاثوليكية وفي ملجأ القديس جان في كيبوي في راواندا إثر الاستقصاءات الشرعية التي تمت بحثاً عن جرائم الإبادة الجماعية. يقع المكانان في شبه جزيرة على بحيرة كيفو. تقع كيبوي وبحيرة كيفو غرب راواندا. تم العثور على أربع مقابر في هذا المكان، وقد تم حفر قبر واحد فقط منها. كانت توجد أيضاً هياكل عظمية مبعثرة في الأرض.

حسب شهادات الشهود تجمع 4000-6000 من الناس تقريباً في كنيسة كيبوي الكاثوليكية وملجأ القديس جان محاولين الهرب من القتل. في 17 نيسان طوّق مدنيون مسلحون وشرطة وجنود البنائين، واستخدموا القنابل اليدوية والأسلحة والسواطير وأسلحة متنوعة أخرى ضد المتجمعين داخل البنائين. تم البحث في الأيام التالية عن كل من هرب ونجا من الهجوم وقتله.

 

حفر القبر
تم تزويد المحققين في المكان بأطباء من جمعية (أطباء من أجل حقوق الإنسان) برعاية محكمة الجنايات الدولية من أجل راواندا. استخدم المحققون فريق عمل متعدد الأنظمة والاختصاصات في العمل في مكان جريمة الإبادة الجماعية التي حدثت في كيبوي. تمت الاستفادة من علماء الآثار في العديد من المهام التي شملت توثيق المكان الابتدائي ورسم الخرائط والتصوير الفوتوجرافي وحفر القبر. تم إحضار علماء أنثربولوجيا شرعيين من أجل حفر القبر وتحليل البقايا. تم استخدام أطباء شرعيين أيضاً لإجراء تشريح جثة للجثث المحتفظة بالأنسجة الرخوة. تم استخدام 15-16 من السكان المحليين كعمال، وشملت أعمالهم نقل دلاء النفايات ونقل أكياس الجثث إلى الكنيسة من أجل تخزينها.

أجرى أطباء من جميعة (أطباء من أجل حقوق الإنسان) تقييماً أولياً للقبر رقم 1 في إيلول من عام 1995. أشرف على ذلك التحقيق (ويليام هاغلوند). تم حفر خندقين بزوايا قائمة يدوياً على طرفي القبر عرضاً. كان الحفر يتوقف عندما يتم تحديد وجود البقايا. تم توثيق البقايا المكشوفة ثم تغطيتها بغطاء بلاستيكي ثم تم ردم الخندقين.  تم فحص بقايا الهياكل العظمية الموجودة على سطح الأرض أيضاً لتحديد حالتها. تم تغطية أية بقايا سطحية معرضة للتلوث بغطاء بلاستيكي ومن ثم دفنها في حفرة من أجل تخزينها.

تم التخطيط للحفر في مكان كنيسة كيبوي بثلاثة أطوار: استغرق الطور الأول أسبوعين وشمل عمليات التوثيق ورسم الخرائط والتصوير الفوتوجرافي في المكان. استغرق الطور الثاني 2-3 أسابيع وشمل جمع وفحص البقايا البشرية المبعثرة على السطح. شمل الطور الأخير حفر قبر واحد وفحص البقايا الموجودة داخله.

كان أمان المكان موضع اهتمام كبير حيث يجب الإثبات للمحكمة أن كل البقايا والأشياء المرتبطة بها كانت مؤمّنة  ولم يتم العبث بها، ومن أجل ذلك حرست قوات أمنية تابعة للأمم المتحدة المكان على مدار 24 ساعة. وكذلك الأمر تم إحاطة المكان بشريط، وتم تسجيل جميع بيانات الزوار في سجل خاص.

بدأ الطور الأول من الحفر في كانون الأول من عام 1995. قام 3 من علماء الآثار بتصوير المكان ورسم خرائطه، وبدؤوا توثيق المكان وهم يمشون عرضاً فيه واضعين أعلاماً على البقايا البشرية والأدلة الأخرى المبعثرة على الأرض. تم رسم خريطة طوبوغرافية لاحقاً شملت البحيرة والأبنية والطرق وكل البقايا والأدلة السطحية ومواضع القبر المعروفة. تم التقاط صور فوتوجرافية للمكان ولداخل الأبنية وخارجها وللبقايا البشرية المكشوفة.

كان المكان العام للقبور معروفاً قبل الذهاب إليه لأن الناس في كيبوي هم الذين دفنوا الأموات بعد حدوث المجزرة عندما عادوا للمكان ووجدوا الجثث تلوث الأرض. وضع الناس المحليون لفة من الأسلاك حول شجرة في مكان القبر رقم 2 كشاهد تذكاري وأشاروا به لعلماء الآثار الذين قاموا بحفر خنادق تجريبية لإثبات ذلك. تم التأكد من وجود بقايا بشرية بواسطة تلك الخنادق. عندما تم تحديد مكان القبر رقم 2 تم تصوير الخنادق ورسم خرائط لها ومن ثم ردمها لأن الهدف الوحيد كان وقتها تحديد مكان القبور وليس حفرها. تم اختبار مكان آخر أيضاً لوجود ممكن لقبر بحفر خندق يدوياً وباستخدام جرافة خلفية آلية من أجل إزالة الأوساخ. تم ضرب خط مياه ولم يعثر على بقايا تحته ولذلك تم إعادة ردم الخندق. أخبر الناس المحليون مرة أخرى علماء الآثار عن مكان محتمل لقبر، وتم استخدام مسبار لاختباره. عندما تم إخراج المسبار انبعثت منه رائحة متوافقة مع رائحة بقايا بشرية متفسخة. تم سبر مكان آخر حيث أخبر عنه قس كقبر محتمل ومرة أخرى انبعثت رائحة البقايا البشرية المتفسخة. تم سبر مكان أخير حيث ظهر وكأن البقايا تبرز فيه من الأرض، ولكن لم يتم العثور على شيء فيه.

بدأ الطور الثاني في كانون الثاني من عام 1996 حين انضم 6 علماء أنثروبولوجيا شرعيين لعلماء الآثار في المكان. تم جمع البقايا البشرية الموجودة على سطح الأرض وفحصها، وكان يتوجب نزع النباتات أولاً بحيث يمكن تحديد مدى الانتشار السطحي للبقايا. وبعد ذلك تم إعطاء رقم حالة لكل مجموعة من البقايا مع رسم خريطة لها وتصويرها. تم تحليل كل الأشياء التي عثر عليها مع البقايا البشرية أيضاً. ثم تم جمع البقايا ووضعها إما في كيس جثة أو في كيس ورقي. تم إحضار الأكياس إلى مكان المختبر حيث يمكن فحص البقايا بصورة أدق. حين يكون علماء الأنثروبولوجيا قادرين على اقتراح السبب الأكثر احتمالاً للموت يسجلون ذلك في ملاحظاتهم ليتم لاحقاً تأكيدها بواسطة الأطباء الشرعيين. تم جمع 53 مجموعة من العظام في الطور الثاني حيث تراوحت المجموعات بين هيكل عظمي كامل وعظم وحيد. كانت البقايا البشرية عموماً في وضعية تشريحية تقريبية، ولكن بعضها كان مبعثراً على الأرض. عزي سبب بعثرة البقايا للحيوانات الباحثة عن طعامها بين الفضلات وللنشاط الزراعي ولحركة مرور المشاة وللمطر وللجاذبية الأرضية ولعمليات الدفن غير المكتملة التي قام بها السكان المحليون.

الطور الثالث هو طور حفر القبر رقم 1. كانت المهمة الأولى في هذا الطور تجميع ثلاجة حفظ موتى في المكان. ومن أجل ذلك تم إحضار الكهرباء والماء العذب للمكان. لا حاجة لنقل البقايا مع وجود ثلاجة حفظ الجثث في المكان، فنقل البقايا يحتاج تدابير أمنية أكثر. كان يجب توفير آلة تصوير بالأشعة السينية ومعدات أخرى أيضاً. تم تجهيز الكنيسة لتكون مكان إجراء الفحص حيث تم نصب خيمة منفوخة بالهواء من أجل إجراء تشريح الجثة.

تم فتح الخندق التجريبي الذي تم حفره في إيلول سابقاً. كان من المعتقد في البداية أن البقايا الموجودة في الخندق تمثل عمق كامل القبر على طول المدى الأفقي له، ولكن تبين لاحقاً أن مكان الخندق كان موجوداً في المنطقة التي أوجدها البلدوزر عندما كان يردم القبر بعد الدفن، فلقد تم إعادة وضع البقايا التي تم العثور عليها فوق القبر الرئيسي. تم بذل جهود أكبر لتحديد الحواف الشرقية والجنوبية للقبر حيث تم إيجادها في النهاية.

تم استخدام جرافة خلفية آلية لتنظيف الطبقات السطحية فوق القبر ومن ثم بدأ العمل بواسطة الرفش والمعول والمجرفة يدوياً. كان كل عامل يعمل في مكانه الخاص في القبر بشكل مستقل، وحين تنكشف الجثة يتم تخصيص رقم جثة لها بإعطاء الرقم لكل جمجمة بحيث يمكن تقدير العدد الأصغري من الأفراد. بعد ذلك يتم تصوير الجثة فوتوجرافياً وتتضمن الصورة مسطرة القياس واتجاه الشمال وبطاقة رقم الجثة، ثم يتم رسم خريطة إلكترونية للجثة وموضعها في القبر. وبعد القيام بكل ذلك توضع الجثة في كيس الجثة وتؤخذ إلى الكنيسة.

أول بقايا بشرية وجدت باتجاه قمة القبر كانت متحولة لهيكل عظمي ومحنطة. وجدت بعض الجثث مترافقة مع الملابس والمجوهرات. وكلما انكشف القبر أكثر بدت الجثث في حالة من التفسخ بحيث كانت معظمها سليمة، وكلما دخلنا في عمق القبر أكثر أيضاً بدت الجثث متراصة أكثر وأكثر. كانت بعض الجثث متشابكة أيضاً مما جعل تمييز الفرد الواحد صعباً بسرعة. تم عدّ 493 فرداً على الأقل اعتماداً على العظام القحفية التي تم كشفها في القبر رقم 1.

كان التعرف على هوية الجثث صعباً. تمكن 11 من أفراد عائلات ناجية من التعرف على أحبائهم بواسطة ملابس وحلي  الجثث. كان لدى 6 من الجثث بطاقات هوية. كان استخدام DNA في التعرف على الهوية صعباً لأن ذلك يتطلب أخذ عينات من أفراد العائلة في حين لم يتم العثور سوى على عائلتين. تم التعرف على 17 جثة إجمالاً.
تم التعاقد مع مجموعة المحققين بواسطة المحكمة الجنائية الدولية من أجل راواندا بهدف إيجاد وفحص الأدلة على حدوث جرائم إبادة جماعية، ولكي تستخدم الأدلة في محاكمة (كليمنت كايشيم). وُجد ذلك الشخص مذنباً بارتكاب جريمة إبادة جماعية بواسطة الأدلة وشهادة الشهود وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (محكمة الجنايات الدولية في راواندا 1999).

 

الطرائق
مقالتي مبنية كلياً على مراجعة الأدب الطبي. تلقيت كتبي ومقالاتي من مكتبات متنوعة ومن قاعدة بيانات الإنترنت. ركزت بحثي بداية على نظام علم الآثار الشرعي، ثم على كيفية استخدامه بشكل خاص للتحري عن جرائم الإبادة الجماعية. نظرت أيضاً في جرائم الإبادة الجماعية في راواندا عام 1994 لعرضها كحالة فريدة من أجل معرفة كيفية تطبيق معارف علم الآثار الشرعي. كانت خطوتي الأولى قراءة كل الأدب الطبي الذي جمعته، ثم كتبت ملاحظات أثناء قراءاتي، ثم جمعت كل ملاحظاتي في الأقسام المتعلقة بالمقالة.

 

النتائج
لم يكن دور عالم الآثار الشرعي في حالة حفر القبور في كيبوي بالشكل الذي كنت أتوقعه أصلاً. لقد ساعد علماء الآثار في تحديد مكان القبر ورسم الخرائط وحفر القبر، ولكن لم يساعد علماء الآثار الشرعيين بنفس القدر في المكان في التعرف على هوية المتوفين وفي استقصاء سبب الوفاة. ساعد علماء الآثار والأنثروبولوجيا في خيمة تشريح الجثة، ومع العظام فقط حين كان على الأطباء الشرعيين مغادرة المكان. كان التعرف على هوية البقايا البشرية صعباً مما خلق مشكلة للعائلات التي رغبت في دفن أحبائها. أظهرت عمليات حفر القبور في كيبوي وجود أوقات من الصعب فيها التعرف على هوية البقايا البشرية نظراً لاستمرار حالة الجيشان في المجتمع بعد جرائم الإبادة الجماعية فيكون من الصعب حينها إيجاد أفراد العائلات كي يساعدوا في التعرف على هوية الجثث. وإذا كانت البلد فقيرة فقد لا تتوفر سجلات أسنان من أجل مقارنتها بالبقايا البشرية. بما أن هدف حفر القبور كان إحضار (كليمنت كايشيم) للعدالة في المحكمة الدولية فإن عملية حفر القبور كانت ناجحة طالما أنه وُجد مذنباً.

 

الخلاصة
يمكن لاستخدام علماء الآثار الشرعيين أن يكون مفيداً في التحري عن جرائم الإبادة الجماعية وأن يقدم نتائج أفضل من النتائج التي يمكن الحصول عليها دون مساعدتهم. يمكن لاستخراج البقايا البشرية مع الانتباه للتفاصيل بتطبيق أوامر علماء الآثار أن يضمن أن يكون التعرف على هوية البقايا أسهل، وإذا كانت جرائم الإبادة الجماعية ستقدم للمحكمة أيضاً فإن توفير الأدلة بهذه الطريقة يمكن استخدامه بحيث نستطيع وضع المسؤولين عن الوفيات في السجن. إن المعرفة التي يوفرها علماء الآثار في الميدان وفي المختبر يمكن أن تساعد عامة الناس وأن تساعد المحكمة الدولية على فهم أفضل لما حدث. علماء الآثار قادرون أيضاً على العمل جيداً في فريق عمل متعدد الاختصاصات حيث يملك كل شخص مهامه الخاصة التي يجب إنجازها. يمكن لعلم الآثار الشرعي أن يساعد كثيراً في التحري عن جرائم الإبادة الجماعية.

ترجمة د. ياسر نديم سعيد


مصدر الدراسة:
University of Wisconsin-LA CROSSE
Karla Peterson May, 2008

    مصدر الترجمة: مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان

تعليقات

لا يوجد نتائج مطابقة


تعليقك هنا

* تعليقك
* كود التحقق
 
 

عدد الزوار

2016475

تصويت

ما مدى جودة الخدمات المقدمة من الموقع؟‏
ممتاز
 
 
جيد
 
 
ضعيف
 
 

القائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية ليصلك آخر أخبار الموقع


اتبعنا